فإذا نظرنا في تاريخنا الإسلامي، وبالتحديد في تاريخ الصحابة رضي الله عنهم، نجد خالد بن الوليد مثلاً أسلم بعد عشرين سنة، كان خلالها يحارب الإسلام، وكذلك عمرو بن العاص أسلما بعد صلح الحديبية وغيرهما كثير.
فبقاء الدعاة إلى الله في مثل تلك القرية يكون لأحد الهدفين:
الأول: أن يوجد أناس لم تبلغهم الدعوة، فبقاء الدعاة من أجل إبلاغهم الدعوة.
الثاني: استجابة قلوب البعض كلياً وبسرعة أو جزئياً ولو بعد مدة.
والذي يجعل الصغير والكبير يفعل المنكرات، أنه يجد في كل الناس منكراً منتشراً بشكل عادي، فلو أن كل من شتم أو سب أو قذف وجد من يقول له: اتق الله، وهذا حرام، لن ينشأ الصغير متعوداً على سب الدين، أو سب الأم والأب واستعمال ألفاظ القذف والاتهام بالزنا والفواحش وكل منها يستوجب حداً، وربما يرتكب الواحد منهم عدة جرائم كبرى في لحظة واحدة مما يستوجب عدداً من الحدود، فإذا وجد من يقول: اتقوا الله، لن يكون الأمر بسيطاً وطبيعياً عند الناس ولن يهون في نظرهم.
مثلاً لا يوجد في مجتمعنا اليوم شاباً يقبل فتاة في الطريق، ولكن قد يحدث في بعض الأماكن الأخرى، فلو لم ينكر الناس عليهم فسنجد بعد عدة أعوام رجالاً يقبلون نساءً في الطرقات، أما لو قلنا لهم اتقوا الله، هذا حرام سيخجلون، أما سكوتنا نحن فهو الحياء المذموم والخجل غير الشرعي.
(6)
قال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) [الأعراف:165]، عندما تركوا ما ذكروا به أنجى الله الذين ينهون عن السوء، فذكر ربنا نجاة الدعاة إلى الله من العذاب العام بسبب دعوتهم، )وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ(، يبين سبحانه أن الظلمة عذبوا عذاباً شديداً بفسقهم.
فأين الساكتون؟ أين الذين قالوا: لم تعظون قوماً الله مهلكهم؟ سكت عنهم القرآن كما سكتوا عن الدعوة، سكت الله عن الساكتين عن الحق، ولذلك اختلف العلماء فيهم، فمنهم من قال: نجوا لأنهم كرهوا المنكر، فمن كره المنكر وعرف أنه منكر فهذه أول خطوات النجاة، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رجع عن القول بهلاكهم، قال حماد بن زيد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في الآية، قال: "ما أدري أنجا الذين قالوا )لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا(، أم لا؟"، قال: فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة،
قال ابن كثير رحمه الله: "ولكن رجوعه أي ابن عباس إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا (يعني قوله الأخر بهلاكهم). لأنه تبين حالهم بعد ذلك والله أعلم.
وقوله تعالى: )وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ...( الآية، فيه دلالة على ان الذين بقوا نجوا.
وواضح أن حكم الساكتين مما يفهم من الآية وليس صريحاً، لذلك فالاحتمال وارد أن يكونوا من الطائفة الهالكة لتركهم الواجب عليهم، ويحتمل أنهم نجوا بكرهيتهم والله أعلم.
وابن عباس كان يبكي رضي الله عنه عند سماع هذه الآية وتلاوتها، وهذا من تطبيق الصحابة للقرآن عملياً على واقعهم، قال ابن عباس: "رأينا أشياء وسكتنا"، فلنا أن نتخيل المنكرات أيام ابن عباس ماذا كان نوعها لكي يبكي ابن عباس؟، ولما أشار إليه عكرمة بأنهم ربما يكونون قد نجوا لأنهم كرهوا المنكر كساه ثوبين، ذلك أن الأمر المختلف فيه غير الذي نص عليه القرآن، فنحن نحلف بالله أنه من دعا إلى الله من هذه الطائفة نجا قال تعالى: )أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ (، ولا نستطيع أن نحلف ولا أن نجزم بشأن الطائفة الساكتة، ولذلك من أرد أن ينجو، فليدخل في ضمان النجاة بإذن الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: )فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(.
لما رأت الطائفة الواعظة عدم الاستجابة من الطائفة المعتدية في السبت، رحلوا وهذه كانت بداية النجاة لهم وبنوا سوراً بينهم وبين أهل المعصية كما ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.
كيف كانت نجاة الدعاة إلى الله؟ انعزلوا بعد أن اكملوا بلاغ الحق إلى الناس وانعدمت الاستجابة، ولا يرجى أن يستجيب أحد لأن العتاة صاروا يقابلون الدعوة بالإباء والإعراض والتولي عن الذكر فالدعوة استنفدت كل أهدافها، فلابد من الرحيل إلى مكان آخر نستطيع أن نعبد الله فيه.
كما قال تعالى: )قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ( [الزمر:10]، وقال: )يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ( [العنكبوت:56]، فالله عز وجل أمرنا أن نعبده في مكان من الأرض، فلو لم توجد فائدة من الدعوة إطلاقاً فلا يجوز أن نبقى في هذه البلدة التي تنتشر فيها المنكرات، كما قال الإمام مالك بن انس: "لا يحل لأحد أن يبقى في بلدة يسب فيها السلف"، فإذا كان الرب يسب والدين يسب والعياذ بالله، فإذا كنت تبقى للدعوة إلى الله والإعذار إلى الله ولكي يستجيب أحد من أبناء المسلمين للحق، أو تستنقذ مسلماً من هلكة فلتقم، أما أن تبقى لمجرد الكل والشرب، ولمجرد تحصيل الأموال، فلا يجوز أن تبقى في مكان ينتشر فيه المنكر من أجل أغراض دنيوية.
فهذه الطائفة المعذبة "عتوا عما نهوا عنه" فبعد أن كانوا يتحايلون، استمروا في الإجرام اكثر، فشرعوا يصطادون يوم السبت مباشرة، ويعتدون في السبت مباشرة والعياذ بالله، وفي يوم من الأيام أمر الله عز وجل هذا الأمر الذي ذكره سبحانه وتعالى: )قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(، أمر تكوين، أمر الله عز وجل بكن فكانوا قردة أذلاء خاسئين مسخوا قردة والعياذ بالله.
في يوم من الأيام أراد الصالحون أن يعرفوا ماذا فعل أصحابهم؟ فتسلقوا السور، أو فتحوا بينهم باباً، فلم يجدوا في القرية أحداً، ووجدوا قردة تتعاوى، فنزلوا ينظرون ما الشأن، فلم يجدوا أحداً منهم وكان القرد يعرف قريبه وجاره، ولا يعرفه ذلك القريب، فيأتيه ويشمه ويربت عليه فيقول: "ألم أكن أنهاك؟ فيشير أن نعم، ويبكي ولا يستطيع أن يتكلم والعياذ بالله، وقيل مسخ شبابهم قردة وشيوخهم خنازير وذلك أن الله ذكر مسخ الخنازير أيضاً والخنزير أقبح، قال تعالى: )قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ( [المائدة:60].
وهذا المسخ سيقع في هذه الأمة مثله عندما تشرب الخمور وتضرب المعازف على الرؤوس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقواماً إلى جانب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولون ارجع إلينا غداً فيبيتهم الله ويضع القلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمسخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردة وخنازير"، قيل: يا رسول الله ويشهدون ألا إله إلا الله وأنك رسول الله ويصومون؟، قال: "نعم"، قيل: فما بالهم؟ قال: "يتخذون المعازف والقينات والدفوف ويشربون الأشربة، فباتوا على شرابهم ولهوهم، فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير".
وعند ابن ماجة عن أبي مالك الأشعري قال: قا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالدفوف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".
مع أن هذا قد انتشر والعياذ بالله، وهناك نوع آخر من المسخ، وهو نوع اخطر من المسخ الظاهر، هو مسخ الباطن، والعياذ بالله وهو أن يصير الإنسان عبداً لغير الله، أن يعبد الإنسان الطاغوت، كما قال عز وجل: )قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) المائدة:60]، عبد الطاغوت شر الأنواع الثلاثة، لأنه بدء بالقردة ثم ثنى بالخنازير ثم ثلث بعبدة الطاغوت فالقرد خير من الخنزير فالقرد أشبه بالإنسان والقرد يغار على أنثاه، يقول عمرو بن ميمون أحد ثقات التابعين: في الجاهلية رأيت قرداً شاباً وقردة شابة، والقردة الشابة معها قرد عجوز، فأشار القرد الشاب للقردة وكانت واضعة يدها تحت رأس العجوز، فنيمته، وسلت يدها من تحت رأسه، وذهبت مع القرد الشاب، قال: فوقع عليها (زنا بها)، وأنا أنظر، ثم رجعت فوضعت يدها تحت رأس القرد العجوز (زوجها) فانتبه فشمها فصاح، فاجتمعت القرود فأتى بالقردين الزانيين فرجمتهم القرود حتى ماتا"، فالقرد يغار والخنزير لا يغار على أنثاه، القرد يجوز بيعه إذا كان منه منفعة لحفظ المتاع مثلاً، والخنزير لا يجوز بيعه بحال، والقرد طاهر العين في الحياة، والخنزير نجس دائماً.
والأسوأ من هذين عبد الطاغوت، وهم كثيرون جداً، لكن شكلهم بشر يرتدون الحلل، وتعظمهم الناس، ولكنهم عبيد الشيطان وجنده من الكفار المشركين واليهود والنصارى وعبيد المنافقين، ينفذون كل مخططاتهم في الكفر والضلال، ويقولون: هي أوامر علينا، والذي يعرف أن هذا كفر وضلال وحرب للإسلام ومع ذلك ينفذه فهو عبد الطاغوت، عبد الشيطان، هؤلاء شر الثلاثة، مسخت قلوبهم وبواطنهم، فهذا الذي ذكر الله من مسخهم، ثم ماتوا بعد ذلك.
قال عز وجل: ( قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أي أذلاء.
وفي الحديث الصحيح: "أن الله لم يجعل لمسخ نسلاً"، بعد أن مسخوا ماتوا ولم يتناسلوا، فيقال لليهود: أنهم إخوان القردة والخنازير، وليسوا أبناء القردة والخنازير لأنهم ليسوا أبنائهم لكنهم أشباههم وإخوانهم في صفاتهم وأفعالهم.
فهذه بعض فوائد هذه القصة العظيمة نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما فيها من موعظة، وأن يوفقنا للعمل بطاعته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن ينجينا عن مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
---------------
(1) المنع من التورق مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر أنه مذهب ابن عباس.
(2) راجع كتاب الأمر بالمعروف للمؤلف
http://saaid.net/bahoth/18.htm