تفسير الحافظ ابن كثير 1-9
أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ، فَذَاكَ صَحِيحٌ .
وَالثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.
وَالثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ، وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إِلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا كَثِيرًا، وَيَأْتِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ، وَعِدَّتِهِمْ، وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كلَّم اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ. وَلَكِنَّ نَقْلُ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 22] ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا، ثُمَّ أَرْشَدَ عَلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ. فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تَسْتَوْعِبَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَأَنْ تُنَبِّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَتُبْطِلَ الْبَاطِلَ، وَتَذْكُرَ فَائِدَةَ الْخِلَافِ وَثَمَرَتَهُ؛ لِئَلَّا يَطُولَ الْنِزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ، فَتَشْتَغِلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ. أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا. فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ، أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى، فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ، وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.