**تفسير
السدي**إسماعيل بن عبد الرحمان السدي الكبير، الكوفي مولى بني هاشم. شيعي شتّام يطعن
بأبي بكر وعمر. وهو غير محمد بن مروان السدي الصغير، الرافضي الكذاب.
اختلف عليه علماء الحديث: فمنهم من وثقه، ومنهم من كذبه، والأكثرون على ضعفه.
ومثل هذا لا ينبغي أخذ الحديث عنه. ولكن قد نأخذ عنه التفسير اللغوي استئناساً فقط،
ولا نجعله حجة في دين الله.
أثنى على تفسيره
بعض السلف كإبراهيم النخعي والعجلي، وذمه بعضهم أيضاً. قال صالح بن مسلم: مررت مع الشعبي
على السدي وحوله شباب يفسر لهم القرآن، فقام عليه الشعبي فقال: «ويحاًَ للآخر، لو كنت
نشواناً يُضرَبُ على أستك بالطبل خيراً لك مما أنت فيه». قال عبد الله بن حبيب بن أبي
ثابت: سمعت الشعبي، وقيل له إن إسماعيل السدي قد أعطي حظـاً من علم القرآن، فقال: «قد
أعطي حظـاً من جهلٍ بالقرآن». قلت: تفسيره إجمالاً جيد، إلا أن فيه أمور باطلة أنكرها
الشعبي وغيره. و عامر الشعبي من كبار أئمة العراق في عصره، ومن علماء التفسير، وقد
أدرك 500 صحابياً، لكنه نادراً ما يحدث بالتفسير تورعاً. قال ابن عطية: «كان جلة من
السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما، يعظمون القرآن ويتوقفون عنه تورعاً
واحتياطاً لأنفسهم، مع إدراكهم وتقدمهم». قال الشعبي: «والله ما من آية إلا وقد سألت
عنها ولكنها الرواية عن الله». ومع ذلك فله تفسيرٌ يسيرٌ حسنٌ، وأجودُ تفسيره: ما يعتمد
فيه على أشعار العرب، فقد كان أحفظ التابعين للشعر. قال الطريفي: «وكثرةُ الأثر المروي
عن العالم لا تعني تميزه عن المُقِلِّ، وقد يشتهر عالم عند الناس في باب، ولا يشتهر
آخر، فيظنُّ أن شهرتَه وكثرةَ قوله تُقدِّمه على غيره. ومن ذلك قول الشعبي لإبراهيم
النخعي: "إني أفقه منك حياً، وأنت أفقه مِني ميتاً، وذاك أن لك أصحاباً يلزمونك، فيُحْيُون
علمك"». وأنا أذكر هذا كله لأن قوماً ظنوا السدي المبتدع أعلم من إمام العراق الشعبي
بسبب كثرة أقواله في التفسير! فسبحان الله، أين الثرى من الثريا؟
وروى العقيلي في الضعفاء (1|87) عن أحمد بن محمد قال: قلت لأبي عبد الله (أحمد
بن حنبل): «السدي كيف هو؟». قال: «أخبرك أن حديثه لمقارب وأنه لحسن الحديث. إلا أن
هذا التفسير الذي يجيء به أسباط عنه...» فجعل يستعظمه. قلت: «ذاك إنما يرجع إلى قول
السدي؟». فقال: «من أين، وقد جعل له أسانيد؟ ما أدري ما ذاك». وقال الطبري: «لا يحتج
بحديثه». قلت ليته إذاً لم يحشو تفسيره بكلام السدي، إذ لعله أخرج له أكثر من أي شخص
آخر!
وكان السدي الكبير رافضياً يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويشرب النبيذ
ويكذب في الحديث. وإجمالاً فالسدي الكبير أثنى على عدالته القطان والنسائي وابن عدي
وأحمد (في رواية). وجرحه أحمد (في رواية) وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والشعبي وابن
مهدي والعقيلي والساجي والطبري وشعبة. واتهمه بالكذب الحافظ السعدي وليث بن أبي سليم
(وهو من أئمة السنة وإن كان حفظه ضعيفاً) والمعتمد بن سليمان. قال ليث: «كان بالكوفة
كذّابـان، فمات أحدهما: السـدّي والكلبي». وقال حسين بن واقد المروزي (قاضي فاضل):
«قدمت الكوفة فأتيت السدي فسألته عن تفسير آية من كتاب الله، فحدثني بها. فلم أتم مجلسي،
حتى سمعته يشتم أبا بكر وعمر –رضي الله عنهما–، فلم أعد إليه». وقال عنه
الجوزجاني: «كذاب شتام». وقال العقيلي: «ضعيف، و كان
يتناول الشيخين».
لكن السدي على كذبه وضلاله، كان رجلاً فصيحاً من العرب. وكان تفسيره اللغوي
للقرآن موافقاً للغة العرب، فلذلك أثنوا عليه (كما أثنوا على تفسير مقاتل رغم أنه كذاب
ضال)، لكنهم عابوا عليه أنه يضع لآرائه أسانيداً. وحكى الساجي عن أحمد قوله فيه: «إنه
ليُحسن الحديث، إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسناداً واستكلفه». فثبت
أن ما ينسبه لابن عباس وابن مسعود وغيرهم لا يصح، وإن كان معناه إجمالاً صحيح، لموافقته
للغة العرب. وقد أشار البيهقي إلى هذا الملحظ فقال في "دلائل النبوة" (1|37): «وإنما
تساهلوا في أخذ التفسير عنهم لأن ما فسروا به ألفاظه، تشهد لهم به لغات العرب. وإنما
عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط».
هذا وقد فَهِم بعض المحققين مثل ابن تيمية وأحمد شاكر، مقولة الإمام أحمد
"هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسناداً واستكلفه"، بأن يخلط الأسانيد بعضها ببعض
دون تمييز. فما نقله عن مرة عن ابن مسعود، قد يكون في الحقيقة عن أبي صالح الكذاب عن
ابن عباس. قال الإمام ابن تيمية في "تفسير آيات أشكلت" (1|167): «وقد ذَكَر في أول
تفسيره أنه أخذه عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود.
وعن ناس من أصحاب رسول الله
r. لكن هو ينقله
بلفظه، ويخلط الروايات بعضها ببعض. وقد يكون فيها المرسل، والمسند، ولا يميز بينها».
وهذا يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن تفسير السدي لا يعتبر حجة، لأن في مشايخه من يكذب
(هذا عدا عن كذبه هو).
والسُّدي أكثر التابعين بإطلاق حكاية
للإسرائيليات، بل فاق الإخباريين عن بني إسرائيل؛ ككعب
الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهم. وهو يفرط من دعاوى النسخ، وعامتها كذب. ويدعي النقل
عن ناس من الصحابة مع أنه لم يلق منهم إلا أنس بن مالك. ورواية ابن أبي حاتم عن السدي
نادرة جداً (هي من طريق عامر بن الفرات عن أسباط)، وتجنب الحاكم (رغم تساهله) أن يخرج
له عن أبي صالح وعن أبي مالك (وهو أكثر تفسيره المُسنَد). طرق الرواية عنه:
- أكثر ما يروى عن السدي من طريق: عمرو بن حماد بن طلحة القناد (صدوق رافضي)
عن أسباط بن نصر الهمداني الكوفي (ضعيف) عن السدي. وهذا طريق ضعيف لا حجة فيه. ومما
يُؤسف إليه أن ابن كثير مكثرٌ جداً لما يرويه في تفسيره من هذا الطريق. بل هذه الإسناد
قال عنه أحمد شاكر (1|156): «هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دوراناً في تفسير الطبري،
إن لم يكن أكثرها. فلا يكاد يخلو تفسير آية من رواية بهذا الإسناد». أقول: وقد مال
الطبري نفسه إلى ضعفه فقال في تفسيره (1|156): «وقد ذكرنا الخبر عن ابن مسعود وابن
عباس (بهذا الإسناد)... فإن كان ذلك صحيحاً، ولست أعلمه صحيحاً، إذ كنت بإسناده مرتاباً».
فعلق أحمد شاكر على هذا بقوله: «وهو (أي الطبري) مع ارتيابه (بإسناد السدي) قد أكثر
من الرواية به. ولكنه لم يجعلها حجةً قط».
- طريق أحمد بن المفضل (شيعي ليّن) عن أسباط عن السدي.
يُذكر أن عامة رواية السدي هي عن مُرَّة (ثقة، لكن السدي كذاب) عن ابن مسعود،
وعن أبي مالك و أبي صالح (باذان مولى أم هانئ، متروك اتهموه بالكذب، واعترف بذلك، ولم
يسمع من ابن عباس) عن ابن عباس. والكذب ثابت عن أبي صالح، وقد قال ابن عدي عنه: «لم
أعلم أحداً من المتقدمين رضيه»، فهذا إجماع على ضعفه. وقد تركه ابن مهدي، ونهى مجاهد
(وهو أعلم الناس بابن عباس) عن تفسيره، مما يدلك على سوءه. والحق أنه لم تكن له معرفة
بالتفسير. وكان الشعبي يأخذ بأذنه ويهزها ويقول: «ويحك! تفسر القرآن، وأنت لا تحسن
تقرأ؟!». وضعّف تفسيره مغيرة كذلك، وتَعجّب ممن يروي عنه. ورماه بالكذب النسائي والجوزقاني
والأزدي. وقال حبيب بن أبي ثابت: «كنا نسمي أبا صالح "دروع زن"، أي: كذاباً يكذب».
وهو في كل الأحوال لم يسمع من ابن عباس، كما نص ابن حبان. ونقل سفيان عن الكلبي اعتراف
أبي صالح له بأنه كذاب، وسفيان إمام قد صرح بأنه يميز بين صدق الكلبي وكذبه. والحقيقة
أن باذان متفق على ضعفه، وما وثقه إلا العجلي المعروف بتساهله.
**تفسير
مقاتل**مقاتل بن سليمان (ت:150). رجل كذاب أصله من
بلخ وانتقل إلى البصرة ثم دخل بغداد وحدث بها وكان فصيح اللسان
مشهوراً بتفسير كتاب الله. أخذ التفسير -كما يدعي- من
مجاهد بن جبر والضحاك وابن السائب الكلبي.
قال ابن المبارك
(ت:181) عن تفسير مقاتل: «ما أحسنه من تفسير لو كان فيه "حدثنا"». وقال: «يا له من
علم لو كان له إسناد». وقال الشافعي: «من أحب التفسير فعليه بمقاتل». وقال
كذلك: «من أراد أن يتبحر في تفسير القرآن فهو عيال على مقاتل بن سليمان». وقال مقاتل
بن حبان: «ما وجدت علم مقاتل بن سليمان إلا كالبحر». وقال مكي بن إبراهيم عن يحيى بن
شبل: قال لي عباد بن كثير: ما يمنعك من مقاتل؟ قلت: إن أهل بلادنا كرهوه. فقال: «لا
تكرهه، فما بقي أحد أعلم بكتاب الله تعالى منه». وقال القاسم بن أحمد الصفار: قلت لإبراهيم
الحربي: ما بال الناس يطعنون على مقاتل؟ قال: «حسداً منهم له». وكان يقص في الجامع
فوقعت العصبية بينه وبين جهم، فوضع كل واحد منهما كتاباً على الآخر ينقض عليه. وقال
محمد بن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: «أفرط جهم في النفي حتى قال إنه ليس بشيء،
وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعل الله تعالى مثل خلقه». وقال حماد بن أبي حنيفة: «هو
أعلم بالتفسير من الكلبي». وقال نعيم بن حماد: رأيت عند ابن عيينة كتاباً لمقاتل
فقلت: يا أبا محمد تروي لمقاتل في التفسير! قال: «لا، ولكن أستدل به وأستعين». وقال
أحمد بن حنبل: «كان له علم بالقرآن». وقال ابن المبارك : «ما أحسن تفسيره لو كان ثقة».
وقال محمد الذهبي في "الإسرائيليات" (ص90): «تفسير مقاتل يحوي من الإسرائيليات والخرافات
وضلالات المشبهة والمجسمة ما ينكره الشرع ولا يقبله العقل». وقال ابن حبان في "المجروحين"
(3|14): «كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان شبهيا يشبه
الرب بالمخلوقين. وكان يكذب مع ذلك في الحديث». والأقوال فيه أكثر من أن نحصيها هنا.وروى تفسير مقاتل هذا عنه أبو عِصْمَة نُوحُ
ابن أبي مريم الجامع، وقد نسبوه إلى الكذب. ورواه أيضاً عن مقاتل: هذيلُ بن حبيب أبو
صالح الدنداني، وهو ضعيف لكنه أصلح حالاً من أبي عصمة، وهو الذي ينقل النسخة المطبوعة،
اعتمد عليه البغوي. وما روى الطبري ولا ابن أبي حاتم لمقاتل. تنبيه: مقاتل بن سليمان البلخي هو غير مقاتل بن حيان البلخي. وهذا الثاني
هو ثقة صالح، روى عن مجاهد والضحاك وعكرمة وقتادة. روى تفسيره محمد بن مزاحم العامري
(صدوق) وأبو خالد يزيد بن صالح الفراء النيسابوري، عن بكير بن معروف أبو معاذ البلخي
(فيه لين)، عنه.
**تفاسير
أخرى** هناك من المفسّرين
من لم نذكرهم، مثل
محمد بن كعب القرظي المدني (ثقة، و جَدّه من يهود بني
قريظة)، وأكثر تفسيره هو من طريق أبي مَعْشَر، ومن طريق موسى بن عبيدة عن محمد
بن كعب. وكلاهما –موسى وأبو معشر– ضعيف، ونحو شطر تفسير القُرظي من طريقهما. لكن
قال ابن معين: "اكتبوا عن أبي مَعشر عن محمد بن كعب خاصة"، لأنها نسخة مكتوبة.
وهو من رواة
الإسرائيليات. وهناك
الحسن البصري من الفصحاء الصالحين ومن كبار التابعين. لكنه متساهل بالنقل، والإرسال. يميل في
التفسير إلى الوعظ، وتفسيره يكاد يخلو من الأحكام. وهو يرى الرواية بالمعنى ويكثر
منها. وفي تفسيره من الغرائب والمفردات، ما ليس عند غيره. روى عنه قتادة نحول ثلث
تفسيره، وروى عنه معمر بن راشد، وروى عنه عطاء الخراساني و مُرَّة بن شراحيل الهمداني
(مرة الطيب، ثقة
سبق ذكره). وروى عنه عمرو بن عبيد المعتزلي
الكذاب.
وهناك من المصنفين من كان همه جمع
أقوال المفسرين من قبله مثل ابن جرير الطبري وهو أشهرهم. وهناك قوم قبله مثل تفسير:
سُنَيد الحسين بن داود (226هـ) وهو ضعيف جداً، خاصة عن حجاج بن محمد المصيصي. وتفسير
سفيان الثوري من طريق أبي حُذيفة النهدي موسى بن مسعود (فيه ضعف). وتفسير سعيد
بن منصور، وتفسير عبد بن حُميد (249هـ). كما أن هناك من كبار أئمة اللغة العربية
ألفوا في التفسير قاصدين بيان غريب الألفاظ وبيان عربية القرآن، ويسمى تفسيرهم
بالتفسير اللغوي. وأشهرهم: الفرّاء (207هـ) وأبو عُبيدة معمَر بن المثنى (209هـ)
والأخفش (210هـ) وابن قُتيبة (276هـ).ملاحظة: كل ما يرويه الطبري عن شيخه ابن حميد فهو ضعيف، لأن محمد بن حميد
بن حيان الرازي كان متروكاً متهماً بالكذب. وروايات الطبري عنه تتجاوز الألفي رواية!
قيمة التفسير الموضوع
لعل المرء هنا يتساءل: ما أهمية تفسير مقاتل وتفسير السدي، إن علمنا أنه موضوع؟
قال الأستاذ الذهبي في "التفسير والمفسرون" (1|119): «إن هذا التفسير الموضوع، لو
نظرنا إليه من ناحيته الذاتية، بغض النظر عن ناحيته الإسنادية، لوجدنا أنه لا يخلو
من قيمته العلمية. لأنه مهما كثر الوضع في التفسير، فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها.
أما التفسير في حد ذاته، فليس دائماً أمراً خيالياً بعيداً عن الآية. وإنما هو -في
كثير من الأحيان- نتيجة اجتهاد علمي له قيمته. فمثلاً من يضع في التفسير شيئاً، وينسبه
إلى عليّ أو ابن عباس، لا يضعه على أنه مجرد قول يلقيه على عواهنه، وإنما هو رأي له،
واجتهاد منه في تفسير الآية، بناء على تفكيره الشخصي. وكثيراً ما يكون صحيحاً. غاية
الأمر أنه أراد لرأيه رواجاً وقبولاً، فنسبه إلى مَن نُسب إليه من الصحابة. ثم إن هذا
التفسير المنسوب إلى عليّ أو ابن عباس، لم يفقد شيئاً من قيمته العلمية غالباً، وإنما
الشيء الذي لا قيمة له فيه هو نسبته إلى علي أو ابن عباس. فالموضوع من التفسير -والحق
يقال- لم يكن مجرد خيال أو وهم خُلق خلقاً. بل له أساس ما، يهمّ الناظر في التفسير
درسه وبحثه، وله قيمته الذاتية وإن لم يكن له قيمته الإسنادية».
لماذا كان المفسرون يوردون الأقوال في
التفسير بدون فرز الصحيح عن الضعيف؟فقد جرت عادت المتقدمين من المحدثين والمفسرين والمؤرخين أن يوردوا كل ما في الباب
من الأحاديث والأخبار، ولو كان غير صحيح الإسناد، أو كان إسناده باطلاً يعلمون بطلانه،
اتكالاً منهم على ذكر سنده. فإنّ ذكر السند يبرئ الذمّة من المؤاخذة في إيراده، إذ
قد كان "عِلم الإسناد" يعيش فيهم على أتم وجه.
وما أحسن ما قاله الأستاذ السيد محب الدين الخطيب في كلمة له في "مجلة الأزهر" في المجلد
24 (ص214) عنوانُها: "المراجع الأولى في تاريخنا". وبدأ فيها بالحديث عن كتاب "تاريخ
الأمم والملوك" للإمام المحدّث المفسّر المؤرّخ ابن جرير الطبري –رحمه الله تعالى–
فقال:«إن مثل الطبري ومن في طبقته من العلماء الثقات المتثبتين -في إيرادهم الأخبار
الضعيفة- كمثل رجال النيابة -القضاء- الآن، إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية، فإنهم يجمعون
كل ما تتصل إليه أيديهم من الأدلّة والشواهد المتصلة بها. مع علمهم بتفاهة بعضها أو
ضعفه، اعتماداً منه على أن كل شيء سيقدر قدره».وهكذا الطبريُّ وكبار حملة
الأخبار من سلفنا، كانوا لا يفرطون في خبر مهما علموا من
ضعف ناقله، خشية أن يفوتهم بإهماله شيءٌ من العلم، ولو من بعض النواحي. إلا
أنهم يوردون
كل خبر معزوّاً إلى راويه، ليعرف القارئ قوة الخبر من كون رواته ثقات، أو
ضعفه من كون
رواته لا يُوثق بهم، وبذلك يرون أنهم أدّوا الأمانة. ووضعوا بين أيدي
القرّاء كلَّ
ما وصلت إليه أيديهم.
قال الحافظ ابن حجر: «أكثر المحدثين في الأعصار الماضية –من سنة مئتين
وهلمَّ جرَّا–
إذا ساقوا الحديث بإسناده، اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته». وقال في ترجمة
الطبراني –سليمان بن أحمد– من "لسان الميزان": «إن الحُفَّاظ
الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة –مع سكوتهم عنها– على ذكرهم
الأسانيد،
لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عُهدته، وأسندوا
أمره إلى النظر
في إسناده».ومن فوائد إيراد الحادث الواحد بأخبار من طرق شتى وإن كانت ضعيفة: قول شيخ الإسلام
ابن تميمة في "مقدمة في أصول التفسير" (ص30): «إن تعدُّد الطرُّق مع عدم التشاعر أو
الاتفاق في العادة: يوجب العلم بمضمون المنقول –أي بالقدر المشترك في أصل الخبر– لكن
هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين -أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصَّب
لها بعضهم-. وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول و السيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو
مثل ذلك. ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار
مالا يصلح لغيره، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره».قال الكوثري في كتابه: "المقالات" (ص312 و461): «وأما المحدّثون والمفسّرون الذين ذكروه-أي
الحديث الموضوع- وسكتوا عليه، فلا يدلُّ صنيعهم هذا على صحَّته عندهم أصلاً. لأن السلف
كانوا يعتقدون براءة ذمتهم من عهدة الخبر الباطل إذا ذكروه بسنده، لما في السند من
بيان البطلان، كما تجد تفصيل ذلك في شرح السخاوي على "ألفية المصطلح" (ص106). ومن يزعم
ذلك، فقد جهل ما هنالك وقول تقويل كلِّ آفك!».
وقد وجَّه الكوثري صنيع المفسّرين هذا توجيهاً حسناً فقال في كتابه "المقالات": ترى
كثيراً من المفسرين دوَّنوا ما يظنون به أنَّ له نفعاً، لتبين بعض النواحي في أنباء
القرآن الحكيم من معارف عصرهم المتوارثة من اليهود وغيرهم، تاركين أمر غَرْبلَتها لمن
بعدهم من النُقَّاد، حرصاً على إيصال تلك المعارف إلى من بعدهم، لاحتمال أن يكون فيها
بعض فائدة في إيضاح بعض ما أجمِل من الأنباء في الكتاب الكريم، لا لتكون تلك الروايات
حقائق في نظر المسلمين، يُراد اعتقاد صحتها والأخذ بها على علاتها بدون تمحيص.
وقد اعتذر سليمان بن عبد القوي الطوفي في أوائل كتابه "الإكسير في أصول التفسير" عن
المفسرين في تدوينهم كلَّ ما بلغهم من الإسرائيليات والأخبار الواهية، بأنهم لم يُلزموا
مَنْ بعدهم قبولها، وإنما دوَّنوها خشية ضياع شيء يستطيعون جمعه، تاركين أمر نقدها
وتمحيصها إلى من بعدهم. وضرب لذلك مثلاً بصنيع رواة الحديث حيث عُنُوا بادئ ذي بدء
الروايات كلها، تاركين أمر التمييز بين صحاحها وضعافها لمن بعدهم من النقاد. وهذا اعتذارٌ
وجيه.
قال تلميذه السخاوي في "شرح ألفية المصطلح" عند الكلام في الحديث الموضوع (ص106):«لا
يبرأ من العُهْدة في هذه الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده بذلك، لعدم الأمن من المحذور
به، وإنْ صَنَعه أكثر المحدّثين في الأعصار الماضية، من سنة مئتين وهلمَّ جرْاً، فإنهم
إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عُهدته. قال شيخنا: وكان ذكر الإسناد
عندهم من جملة البيان». انتهى كلامُ الكوثري.