قرأت في العدد السادس من المجلد السادس من مجلة " المسلمون "
الغراء كلمة الأستاذ الطنطاوي بعنوان " صناعة المشيخة " فسرني ما
فيها من الصراحة والشجاعة في محاربة الباطل الذي انطلى أمره على
كثير من الناس فبارك الله فيه وزاده توفيقاً .
بيد أنني استنكرت قوله في التعليق : " وما يقوله القوالون من أنه
( المظلل بالغمام ) لا أصل له " .
ذلك لأن حديث تظليل الغمام للنبي عليه الصلاة والسلام ثابت في
غير ما كتاب من كتب السنة ، فكيف يصح أن يقال فيه : " لا أصل له
" ؟ نعم لو قال " لا يصح سنده " لكان أقرب إلى الصواب ، وأبعد عن
الغلو في الخطاب ، وإنما قلت " أقرب " لأن الصواب أن الحديث صحيح
، وإن ضعفه بعضهم ، لأنه لم يأت عليه بحجة مقنعة وإليك البيان :
أخرج الترمذي (4/296 بشرح التحفة) وأبو نعيم في (دلائل النبوة
1/53) والحاكم (2/615-616) وابن عساكر في (التاربخ 1/187/1 –
188/1) عن قراد أبي نوح ، أنبأ يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن
أبي موسى ، عن أبيه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا
علىالراهب . . . قلت : فذكر القصة وفيها " فأقبل -صلى الله عليه
وسلم- وعليه غمامة تظله ، قال : انظروا إليه غمامة تظله ! فلما
دنا على القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء
الشجية عليه ، قال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه " الحديث
بطوله ، وفي آخر " وبعث معه أبو بكر بلالاً " .
قلت : فهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح :
أما أبو بكر بن أبي موسى فثقة بلا خلاف واحتج به الشيخان .
وأما يونس بن أبي إسحاق فاحتج به مسلم ، وفيه كلام لا يسقط حديثه
عن رتبة الاحجاج به ، وقد قال الذهبي فيه " صدوق ما فيه بأس " .
وأما قراد ، واسمه عبد الرحمن » فثقة أيضاً احتج به البخاري .
قلت : فتبين أن الإسناد صحيح من الوجهة الحديثية ، وقد تناقضت
فيه آراء العلماء ما بين مفرط ومفرط ، فهذا الحاكم يقول فيه : "
صحيح على شرط الشيخين " ! وقال الجزري " إسناده صحيح ورجاله رجال
الصحيح أو أحدهما " .
وفي الجانب الآخر قول الذهبي في تعقيبه على الحاكم : " قلت :
أظنه موضوعاً ، فبعضه باطل " .
فهذا الغلو من القول لا يتفق في ميدان العلم والبحث الحر ، فأين
الدليل على وضعه بطوله ، ومن المعلوم أن الوضع إنما يحكم به إما
من جهة السند ، وهذا منفي هنا لما علمت من ثقة رجاله ، وإما من
جهة متنه ، وهذا مفقود أيضاً إذ غاية ما يمكن أن ينكر منه ما
ذكوه الذهبي في ترجمة قراد أبي نوح من " الميزان " فقال :
" أنكر ما له حديثه عن يونس بن أبي إسحاق . . . ومما يدل على أنه
باطل قوله : " وبعث معه أبو بكر بلالاً .. وبلال لم يكن بعد خلق
، وأبو بكر كان صبياً " .
وقال في تاريخ الإسلام (1 / 39):
" تفرد به قراد ، واسمه عبد الرحمن بن غزوان ، ثقة احتج به
البخاري والنيسابوري (1) ، ورواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي ،
وهو حديث منكر جداً ، وأين كان أبو بكر ؟! كان ابن عشر سنين فإنه
أصغر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ونصف ، وأين كان
بلال في هذا الوقت ، فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم
يكن ولد بعد " .
وذكر نحو هذا وأبسط منه ابن القيم في فصل له في هذا الحديث مخطوط
في المكتبة الظاهرية بدمشق (عام – 5485 / 100 - 103) .
قلت : وهذا النقد للمتن لو سلم به لم يقتض الحكم على الحديث كله
بالوضع ، ذلك لأن رواته ثقات كما عرفت ، وحينثذ إنما يجوز أن يرد
من حديث الثقة ما ثبت خطؤه ويبقى باقيه على الأصل وهو القبول ،
ويؤيده أن البزار لما روى هذا الحديث لما روى هذا الحديث لم يسم
" بلالاً " وإنما قال : " رجلاً " وعلى هذا يطيح الإشكال الذي
اعتمد عليه الذهبي في إنكاره للحديث ، ويدل على أن تسمية الرجل
بلالاً سهو من بعض الرواة ، وهذا لابد من الاعتراف به ، إذ الثقة
قد يخطيء والجواد قد يكبو .
وتوسط آخرون فحسنوا الحديث كالترمذي ، فإنه قال : " حديث حسن
غريب " .
وهذا هو الحق عندي لما عرفت من سلامة إسناده من قادح ؟ وما أشرنا
إليه من الكلام في بعض رواته لا ينافي القول بحسنه لا سيما إذ
علمنا مجيئه من طرق أخرى ، فقد قال السيوطي في " الخصائص الكبرى
" (1 /84) :
" قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي.
قلت : ولها شواهد عدة سأوردها تقضي بصحتها ، إلا أن الذهبي ضعف
الحديث لقوله في آخره : " وبعث معه أبو بكر بلالاً " . . . وقد
قال ابن حجر في " الإصابة " : الحديث رجاله ثقات ، وليس فيه منكر
سوى هذه اللفظة ، فتحمل على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر
وهماً من أحد رواته " .
ثم ساق السيوطي الشواهد التي أشار إليها فليراجعها من شاء فإن
الكلام عليها مما يطيل البحث ، ولا مجال لذلك الآن .
بقي علينا أن ندفع شبهة أخرى على هذه المعجزة وقد تعلق بها
الذهبي أيضاً ، فإنه قال عطفاً على قوله السابق في " التاريخ " :
وأيضاً فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة
لأن ظل الغمامة تقدم فيء الشجرة التي نزل تحته .
فأقول : إنما يصح هذا الاستشكال لو كان في الحديث التصريح بأن
الفيء مال مع بقاء الغمامة عليه -صلى الله عليه وسلم- ، وليس في
الحديث شيء من هذا ، فمن الجائز أنه -صلى الله عليه وسلم- لما
جلس عند الشجرة انكشفت الغمامة عنه ووقعت الشمس عليه فمال فيء
الشجرة عليه ليظله بدل الغمامة ، وعليه فيكون قد ظهرت له -صلى
الله عليه وسلم- في هذه القصة معجزتان الأولى تظليل الغمامة له ،
والأخرى ميل الفيء عليه ، وهو -صلى الله عليه وسلم- أهل لذلك
ولما هو أكثر منه بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- ، نقول هذا
وإن كنا لسنا والحمد لله من الذين ينسبون إليه -صلى الله عليه
وسلم- ما هب ودب مما لم يصح من المعجزات ، فإن فيما صح منها ما
يكفي ويشفي والحمد لله .
على أنه ينبغي أن لا ننسى أنه ليس في هذه القصة أن الغمامة كانت
تظله دائماً أينما سار وأينما نزل ، فإن هذا باطل قطعاً ، فهناك
أحاديث كثيرة صحيحة تصرح بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستظل
بالشجرة والخيام وغيرها ، وإنما وقعت هذه المعجزة في خروجه -صلى
الله عليه وسلم- إلى الشام .
وخلاصة القول : إن تظليل الغمامة له صلى الله عليه وآله وسلم له
أصل في السنة ، ولكن في ثبوته ما ألممت به من الخلاف ، والراجح
عندي الصحة لما سبق ، فمن اقتنع بذلك فبها ، وإلا فحسبه التوقف
وترك الجزم بالضعف ، وأما القول بأنه لا أصل له ، فلا أصل له .
محمد ناصر الدين الألباني
دمشق
18 ذي القعدة 1378 هـ
المصدر : مجلة المسلمون (6 / 793 – 797).