شبهة أن الحسن البصري رحمه الله طعن في معاوية رضي الله عنه !!
ذكر
الطبري في تاريخه ( 3/ 232 ) ضمن حوادث سنة ( 51هـ ) و ابن الأثير في
الكامل ( 3/ 487 ) نقلاً عن الحسن البصري أنه قال : أربع خصال كن في
معاوية لو لم تكن فيه إلا واحد لكانت موبقة له :
( 1 ) أخذه الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة .
( 2 ) استخلافه بعد ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير .
( 3 ) ادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر .
( 4 ) قتله حِجْراً وأصحاب حِجْر ، فيا ويلاً له من حِجْر ويا ويلاً له من حِجْر وأصحاب حِجْر .
وأما الجواب عن هذه الشبهة فهو كالتالي :
أولاً : من ناحية السند :
هذه الرواية مدارها على أبي مخنف ، وأبو مخنف
هذا هو لوط بن يحيى الأزدي الكوفي ، قال عنه الذهبي كما في الميزان ( 3 /
419 ) وابن حجر كما في اللسان ( 4 / 492 ) : أخباري تالف لا يوثق به .
كما تركه أبو حاتم وغيره ، وقال عنه الدارقطني : ضعيف ، وقال ابن معين :
ليس بثقة ، وقال مرة ليس بشيء ، وقال ابن عدي شيعي محترق . ميزان الاعتدال
( 3 / 419 ) ، وعده العقيلي من الضعفاء . انظر الضعفاء للعقيلي ( 4 / 18 –
19 ) . و للمزيد من حال هذا الرجل راجع رسالة مرويات أبي مخنف في تاريخ
الطبري للدكتور يحيى بن إبراهيم اليحيى ( ص 43 – 45 ) ففيها مزيد بيان
وتفصيل عن حال هذا الرجل .
وعلى ذلك فالخبر ساقط ولا حجة فيه بسبب ضعف سنده ، هذا بالنسبة لرواية
الطبري . أما رواية ابن الأثير فقد أوردها ابن الأثير بغير إسناد . إذ كيف
نسلم بصحة خبر مثل هذا في ذم صحابي لمجرد وروده في كتاب لم يذكر فيه صاحبه
إسناد صحيح ، والمعروف أن المغازي والسير والفضائل من الأبواب التي لم
تسلم من الأخبار الضعيفة والموضوعة.
5-وقولهم على لسان الحسن البصري في ما روي عنه : أن معاوية أخذ الأمر من
غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة يُعد شبهة خامسة .
وجوابها : هذا الادعاء باطل من أساسه .. لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما
قد تنازل لمعاوية رضي بالخلافة ، وقد بايعه جيمع الناس ولم نعلم أن أحداً
من الصحابة امتنع عن مبايعته .. ولست هنا بصدد الحديث عن صلح الحسن مع
معاوية أو أسباب ذلك ، وإنما الحديث ينصب في رد الشبهة التي أثيرت حول
معاوية من كونه أخذ الأمر من غير مشورة ..
وتفصيل ذلك :-
ذكر ابن سعد في الطبقات في القسم المفقود الذي حققه الدكتور محمد السلمي ( 1
/ 316 – 317 ) رواية من طريق ميمون بن مهران قال : إن الحسن بن علي بن
أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين ، بايعهم على الإمارة ،
وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ، ويرضوا بما رضي به . قال المحقق
إسناده حسن .
ورواية أخرى أخرجها ابن سعد أيضاً وهي من طريق خالد بن مُضرّب قال : سمعت
الحسن بن علي يقول : والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم ، قالوا : ما هو
؟ قال : تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت . طبقات ابن سعد ( 1 / 286
، 287 ) . وقال المحقق : إسناده صحيح .
هذا ويستفاد من هاتين الروايتين ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد
للصلح فور استخلافه ، وذلك تحقيقاً منه لنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
أخرج البخاري في صحيحه ( 5 / 361 ) من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو
يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن
يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
وقد علق ابن حجر الهيتمي على هذا الحديث بقوله : وبعد نزول الحسن لمعاوية
اجتمع الناس عليه ، وسمي ذلك العام عام الجماعة ، ثم لم ينازعه أحد من أنه
الخليفة الحق يومئذ . انظر : تطهير الجنان ( ص 19 ، 21 – 22 ، 49 ) .
وأخرج الطبراني رواية عن الشعبي قال : شهدت الحسن بن علي رضي الله عنه
بالنخيلة حين صالح معاوية رضي الله عنه ، فقال معاوية : إذا كان ذا فقم
فتكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي ، وربما قال سفيان – وهو سفيان
بن عيينة أحد رجال السند - : أخبر الناس بهذا الأمر الذي تركته لي ، فقام
فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه - قال الشعبي : وأنا أسمع – ثم قال
: أما بعد فإن أكيس الكيس – أي الأعقل – التقي ، وإن أحمق الحمق الفجور ،
وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته
لمعاوية إرداة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم ، أو يكون حقاً كان لامرئ أحق
به مني ففعلت ذلك { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }[الأنبياء/111]
. المعجم الكبير ( 3 / 26 ) بإسناد حسن . وقد أخرج هذه الرواية كل من ابن
سعد في الطبقات ( 1 / 329 ) و الحاكم في المستدرك ( 3 / 175 ) و أبو نعيم
في الحلية ( 2 / 37 ) والبيهقي في الدلائل ( 6 / 444 ) وابن عبد البر في
الاستيعاب ( 1 / 388 – 389 ) .
و هذا الفعل من الحسن رضي الله عنه – وهو الصلح مع معاوية وحقنه لدماء
المسلمين - ، كان كعثمان بن عفان رضي الله عنه في نسخه للقرآن و كموقف أبي
بكر في الردة .
وبعد أن تم الصلح بينه و بين الحسن جاء معاوية إلى الكوفة فاستقبله الحسن و
الحسين على رؤوس الناس ، فدخل معاوية المسجد و بايعه الحسن رضي الله عنه و
أخذ الناس يبايعون معاوية فتمت له البيعة في خمس و عشرين من ربيع الأول
من سنة واحد و أربعين من الهجرة ، و سمي ذلك العام بعام الجماعة .
أخرج يعقوب بن سفيان و من طريقه أيضاً البيهقي في الدلائل من طريق الزهري ، فذكر قصة الصلح ،
و فيها : فخطب معاوية ثم قال : قم يا حسن فكلم الناس ، فتشهد ثم قال : أيها
الناس إن الله هداكم بأولنا و حقن دماءكم بآخرنا و إن لهذا الأمر مدة و
الدنيا دول . المعرفة و التاريخ (3/412) و دلائل النبوة (6/444-445) و ذكر
بقية الحديث .
أخرج البخاري عن أبي موسى قال : سمعت الحسن – أي البصري - يقول : استقبل
والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني
لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية - و كان خير
الرجلين - : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء ، هؤلاء و هؤلاء ، هؤلاء من لي بأمور
الناس ؟ من لي بنسائهم ؟ من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني
عبد شمس - عبد الله بن سمرة و عبد الله بن عامر بن كريز - فقال : اذهبا إلى
هذا الرجل فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه
فتكلما و قالا له و طلبا إليه . فقال لهما الحسن بن علي : إنّا بنو عبد
المطلب قد أصبنا من هذا المال و إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا :
فإنه يعرض عليك كذا و كذا و يطلب إليك و يسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ قالا
: نحن لك به ، فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه ، فقال الحسن -
أي البصري - : و لقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم على المنبر - و الحسن بن علي إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرة و
عليه أخرى و يقول - : إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين
عظيمتين من المسلمين . صحيح البخاري مع الفتح (5/361) و الطبري (5/158) .
و في هذه القصة فوائد كثيرة أفادها الحافظ في الفتح منها :-
1- عَلَمٌ من أعلام النبوة .
2- فيها منقبة للحسن بن علي رضي الله عنهما ، فإنه ترك الملك لا لقلة و لا
لذلة و لا لعلة ، بل لرغبته فيما عند الله ، و لما رآه من حقن دماء
المسلمين ، فراعى أمر الدين و مصلحة الأمة .
3- فيها ردّ على الخوارج الذين كانوا يكفرون علياً و من معه و معاوية و من
معه ، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين .
4- فيها دلالة على فضيلة الإصلاح بين الناس ، ولا سيما في حقن دماء المسلمين .
5- فيها دلاله على رأفة معاوية بالرعية و شفقته على المسلمين ، و قوة نظره في تدبير الملك و نظره في العواقب .
6- فيها جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحاً للمسلمين .
7- و فيه جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل ، لأن الحسن و معاوية ولي كل
منهما الخلافة و سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ) و سعيد بن زيد (ت51هـ) في الحياة
و هما بدريان . فتح الباري (13/71-72) .
و بهذا التنازل ، انتهت مرحلة من الصراع و عادة الأمة إلى الجماعة بعد أن
مرت بتجارب جديدة قاسية تركت آثارها عميقة في المخيلة لأجيالها المتلاحقة
حتى الوقت الحاضر .
وللمزيد حول تفاصيل الصلح و خطوات ذلك ، راجع كتاب : مرويات خلافة معاوية
في تاريخ الطبري للدكتور خالد الغيث ( ص 126 – 167 ) ، و كتاب : مواقف
المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للدكتور محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص
110 – 120 ) فقد أجاد كل منهما في طرح الموضوع ومناقشته ..
6- شبهة توليته يزيد من بعده :
عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد ، و
تنشئته التنشئة الصحيحة ، ليشب عليها عندما يكبر ، فسمح لمطلقته ميسون بنت
بحدل الكلبية ، و كانت من الأعراب ، و كانت من نسب حسيب ، و منها رزق
بابنه يزيد - انظر ترجمتها في : تاريخ دمشق لابن عساكر - تراجم النساء -
(ص397 - 401) – من أن تتولى تربيته في فترة طفولته ، وكان رحمه الله وحيد
أبيه ، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة و الفصاحة
فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية ، و يتحلى بشمائل النخوة و
الشهامة والكرم و المروءة ، إذ كان البدو أشد تعلقاً بهذه التقاليد .
كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية ، و ذلك لكي يكتسب قدراً من الفصاحة في اللغة ، كما هو حال العرب في ذلك الوقت .
و عندما رجع يزيد من البادية ، نشأ و تربى تحت إشراف والده ، و نحن نعلم أن
معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث - تهذيب التهذيب لابن حجر
(10/207) - ، فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث و بعض أخبار أهل
العلم . مثل حديث : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ، و حديث آخر في
الوضوء ، و روى عنه ابنه خالد و عبد الملك بن مروان ، و قد عده أبوزرعة
الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة ، و هي الطبقة العليا . البداية و
النهاية لابن كثير (8/226-227) .
و قد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ) انظر ترجمته
في : تهذيب التهذيب لابن حجر (3/210) ، مؤدباً لولده يزيد ، و كان دغفل
علامة بأنساب العرب ، و خاصة نسب قريش ، و كذلك عارفاً بآداب اللغة العربية
.
هذا مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة ..
أما عن فكرة ولاية العهد .. فقد بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون
الخليفة من بعده ، ففكر معاوية في هذا الأمر و رأى أنه إن لم يستخلف و مات
ترجع الفتنة مرة أخرى .
فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر ، فاقترحوا أن يكون
الخليفة من بعده من بني أمية ، فرشح ابنه يزيد ، فجاءت الموافقة من مصر و
باقي البلاد و أرسل إلى المدينة يستشيرها و إذ به يجد المعارضة من الحسين و
ابن الزبير ، و ابن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر ، و ابن عباس . انظر :
تاريخ الإسلام للذهبي – عهد الخلفاء الراشدين – (ص147-152) و سير أعلام
النبلاء (3/186) و الطبري (5/303) و تاريخ خليفة (ص213) . إلا أن ابن عمر
وابن عباس رضي الله عنهما قد بايعا فيما بعد طوعاً ليزيد .
و كان اعتراض هؤلاء النفر حول تطبيق الفكرة نفسها ، لا على يزيد بعينه .
ثم كانت سنة واحد وخمسين هجرية فحج معاوية في الناس و قرأ كتاب الإستخلاف
ليزيد على الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : لقد علمتم سيرتي فيكم ، و
صلتي لأرحامكم ، و صفحي عنكم و حلمي لما يكون منكم ، و يزيد ابن أمير
المؤمنين أخوكم و ابن عمكم و أحسن الناس لكم رأياً ، و إنما أردت أن تقدموه
باسم الخلافة و تكونوا أنتم الذين تنزعون و تؤمرون ، و تجيبون و تقسمون
لا يدخل عليكم في شيء من ذلك . راجع العواصم من القواصم (ص226-228) ، و
الكامل في التاريخ (2/512) .
و اعتبر معاوية أن معارضة هؤلاء ليست لها أثر ، و أن البيعة قد تمت ، حيث
أجمعت الأمة على هذه البيعة . راجع : الفصل في الملل و النحل لابن حزم
(4/149-151) و قد ذكر كيفية انعقاد البيعة و شروطها فعرضها عرضاً دقيقاً .
و كانت لتولية معاوية ابنه يزيد ولاية العهد من بعده أسباب كثيرة ، فهناك
سبب سياسي ؛ وهو الحفاظ على وحدة الأمة ، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلوا
بعضها بعضاً ، و كان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد ، خاصة
و القيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضاً فتقع الفتن و
الملاحم بين المسلمين مرة ثانية ، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى .
وهناك سبب اجتماعي ؛ وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين
كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية ، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم
ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد .
وهناك أسباب شخصية في يزيد نفسه ، وليس معاوية بذلك الرجل الذي يجهل صفات
الرجال ومكانتهم ، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة ، ثم هو الذي قضى
أربعين سنة من عمره وهو يسوس الناس ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء
، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته ، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من
الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة ، وكل هذه المزايا
جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير ..
وقد سأل معاوية رضي الله عنه ولده يزيد يوماً حينما أنس منه الحرص على
العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين ، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير
بها في الأمة بعد توليه الخلافة ، فيرد عليه يزيد بقوله : ( كنت والله يا
أبةِ عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب ) . ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (
1 / 375 ) بسند حسن .
لمزيد من التفصيل و الأسباب التي أدت بمعاوية لأخذ البيعة ليزيد ، راجع
كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأستاذ : محمد بن عبد
الهادي الشيباني ( ص 126- 136 ) . فقد أجاد الباحث في طرح الموضوع وأفاد ..
و تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه
الفكرة مواقف شتى ، ففيهم المعارض ، و منهم المؤيد ، و كانت حجة الفريق
المعارض تعتمد على ما أوردته بعض الروايات التاريخية من أن يزيد بن معاوية
كان شاباً لاهياً عابثاً ، مغرماً بالصيد و شرب الخمر ، و تربية الفهود
والقرود ، و الكلاب … الخ . نسب قريش لمصعب الزبيري (ص127) و كتاب الإمامة
والسياسة المنحول لابن قتيبة (1/163) و تاريخ اليعقوبي (2/220) و كتاب
الفتوح لابن أعثم الكوفي (5/17) و مروج الذهب للمسعودي (3/77) و انظر حول
هذه الافتراءات كتاب : صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت
عبد الله (ص86-122) .
و لكننا نرى أن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة
يزيد بن معاوية ، فإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها
معاوية في تنشئة وتأديب يزيد ، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا
في دحض مثل تلك الآراء .
فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل
يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت ،
فقال له يزيد ، و كان له مكرماً : يا أبا القاسم ، إن كنت رأيت مني خُلُقاً
تنكره نَزَعت عنه ، و أتيت الذي تُشير به علي ؟ فقال : والله لو رأيت
منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه ، وأخبرك بالحق لله فيه ، لما أخذ الله
على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، وما رأيت منك إلاّ خيراً .
أنساب الأشراف للبلاذري (5/17) .
كما أنه شهد له بحسن السيرة والسلوك حينما أراده بعض أهل المدينة على خلعه
والخروج معهم ضده ، فيروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن
الزبير - مشى من المدينة هو و أصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على
خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و
يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون ، قد حضرته و أقمت
عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة
، قالوا : ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال : و ما الذي خاف مني أو رجا حتى
يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ، فلئن كان
أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا
بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق و إن لم نكن رأيناه ، فقال لهم :
أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء .. الخ . البداية و
النهاية (8/233) و تاريخ الإسلام – حوادث سنة 61-80هـ – (ص274) و حسن محمد
الشيباني إسناده ، انظر مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384) .
وقد شهد له ابن عباس رضي الله عنه بالفضيلة وبايعه ، كما في أنساب الأشراف ( 4 / 289 – 290 ) بسند حسن .
كما أن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية ، من أمثال عبد الله بن
الزبير و عبد الله بن عباس و أبو أيوب الأنصاري ، على مصاحبة جيش يزيد في
سيره نحو القسطنطينية ، فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة ،
و تتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة ، و يتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية
ما يوكل إليه من مهمات .
أخرج البخاري عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى
عبادة بن الصامت و هو نازل في ساحة حمص و هو في بناء له و معه أم حرام ،
قال عمير : فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول
جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ، فقالت أم حرام : قلت يا رسول الله
أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من
أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ، فقلت : أنا فيهم قال : لا . البخاري مع
الفتح (6/120) .
وأخرج البخاري عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود :
فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في غزوته التي توفي فيها ، و يزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم . البخاري مع
الفتح (3/73) .
و في هذا الحديث منقبة ليزيد رحمه الله حيث كان في أول جيش يغزوا أرض الروم .
ولنستمع إلى وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول مسألة
ولاية العهد ليزيد – وهي جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق ، فهو يقول :
إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر و عمر في مجموع سجاياهما ،
فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام ، ولا عمر بن عبد العزيز ، و إن طمعنا
بالمستحيل و قدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر و عمر آخر ، فلن تتاح له بيئة
كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر و عمر ، وإن كان مقياس الأهلية ،
الاستقامة في السيرة ، والقيام بحرمة الشريعة ، والعمل بأحكامها ، و العدل
في الناس ، و النظر في مصالحهم ، والجهاد في عدوهم ، و توسيع الآفاق
لدعوتهم ، والرفق بأفرادهم و جماعاتهم ، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره ، و
يقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته ، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون
كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم ، و أجزل الثناء عليهم . العواصم من
القواصم لابن العربي (ص221) .
و نجد أيضاً في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه
الخطوة هو النفع للصالح العام و ليس الخاص ، فقد ورد على لسانه قوله :
اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله ، فبلغه ما أملت و أعنه ، و
إن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده ، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً ،
فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك . تاريخ الإسلام للذهبي – عهد معاوية بن أبي سفيان –
(ص169) و خطط الشام لمحمد كرد علي (1/137) .
و يتبين من خلال دراسة هذه الفكرة – وهي ولاية العهد من بعده لابن يزيد - ،
أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه ، إذ أنه
باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده ، قد ضمن للأمة الإسلامية
وحدتها ، و حفظ لها استقرارها ، و جنبها حدوث أية صراعات على مثل هذا
المنصب .
قلت : و قد رأى معاوية رضي الله عنه في ابنه صلاحاً لولاية خلافة الإسلام
من بعده و هو أعلم الناس بخفاياه و لو لم يكن عنده مرضياً لما اختاره .
وحول مبايعة يزيد بن معاوية رحمه الله بولاية العهد ، و حول نشوء هذه
الفكرة ، و حول كون يزيد أهلاً و كفئ لتوليه الخلافة بعد والده ، انظر :
مقال بعنوان : مبايعة يزيد بن معاوية بولاية العهد ، دراسة تاريخية ،
للدكتور : عمر سليمان العقيلي ، في مجلة كلية الآداب ، جامعة الملك سعود
المجلد (12) ج (2) .
و الغريب في الأمر أن أكثر من رمى معاوية و عابه في تولية يزيد و أنه ورثّه
توريثاً هم الشيعة الروافض ، مع أنهم يرون هذا الأمر في علي بن أبي طالب و
سلالته إلى اثني عشر خليفة منهم .
نعم إنا نستطيع أن نقول بأن يزيد بن معاوية هو أول من عهد إليه أبوه
بالخلافة ؛ ولكن لنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث
الآتية :-
1- ترك الناس بدون خليفة من بعده ، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد .
2- نادى في كل مصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائباً ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة .
3-جعل يزيد هو المرشح ، وبايعه الناس كما فعل .
ولنأخذ الأمر الأول :-
كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع ، وتركه ولم يرشح أحداً لخلافة المسلمين حتى توفي .
أعتقد أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد
بتنازله عن الخلافة ، وترك الناس في هرج ومرج ، حتى استقرت الخلافة أخيراً
لعبد الملك بن مروان بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات .
ثم لنتصور الأمر الثاني :-
نادى مناد في كل مصر بأن يرشحوا نائباً عنهم ، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم
فرز الأصوات فيها ، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون
خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية .
سيختار أهل الشام ، رجل من بني أمية بلا شك ، بل وربما أنه يزيد ، وربما غيره .
وسيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وسيختار أهل الحجاز : إما ابن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر ، أو ابن الزبير رضي الله عن الجميع .
وسيختار أهل مصر : عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
والسؤال الآن : هل سيرضى كل مصر بولاية واحد من هؤلاء ، ويسلموا له ، أم ستكون المعارضة واردة ؟!
الجواب : أعتقد أن المعارضة ستظهر .
ولنسأل سؤالاً آخر : في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قبل الأمصار ، هل يستطيع معاوية أن يلزم كل مصر بما اختاره أهل المصر الآخر ؟!
الجواب : ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية ، وسيعمد
أدعياء الشر الذي قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية ،
ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية .
ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات ، وربما حصل ما أشرنا إليه ، وربما حدث
العكس من ذلك ، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي
أحياناً يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم
آنذاك .
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله
عنه ، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة ، استوجبت من معاوية أن
يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين
ولي عهد له ..
ويبقى الأمر الثالث : وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه بتولية يزيد ولياً للعهد من بعده ..
و قد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه ، كل من ابن العربي في العواصم من
القواصم (ص228-229 ) ، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة ، إذ يقول : والذي
دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة في
اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه - و حينئذ
من بني أمية - ثم يضيف قائلاً : و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ،
فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك ، و حضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم
عنه ، دليل على انتفاء الريب منه ، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ،
وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك ،
و عدالتهم مانعة منه . المقدمة لابن خلدون (ص210-211) .
و يقول في موضع آخر : عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما
كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره
اختلفوا عليه ، مع أن ظنهم كان به صالحاً ، ولا يرتاب أحد في ذلك ، ولا يظن
بمعاوية غيره ، فلم يكن ليعهد إليه ، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق ،
حاشا لله لمعاوية من ذلك . المقدمة (ص206) . وانظر أقوالاً أخرى لمؤرخين
وباحثين يثنون على هذه الخطوة ، من أمثال : محمد علي كرد في كتابه :
الإسلام والحضارة الغربية ( 2 / 395 ) ، و إبراهيم شعوط في : أباطيل يجب أن
تمحى من التاريخ ( ص 334 ) ، و يوسف العش في : الدولة الأموية ( ص 164 ) ،
و مقال للدكتور : عمارة نجيب في مجلة الجندي المسلم ( ص 58 ) . لمزيد
تفصيل في هذا الموضوع ، راجع كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن
معاوية ( ص 141 – 153 ) .
و ليس أفضل - قبل أن ننتقل إلى شبهة أخرى - من أن نشير إلى ما أورده ابن
العربي في كتابه العواصم من القواصم ( ص 231 ) من رأي لأحد أفاضل الصحابة
في هذا الموضوع ، إذ يقول : دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية ، فقال : أتقولون إن يزيد ليس بخير
أمة محمد ، لا أفقه فيها فقهاً ، ولا أعظمها فيها شرفاً ؟ قلنا : نعم ، قال
: و أنا أقول ذلك ، و لكن و الله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن
تفترق.